الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب: الحمد لله، كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديـق والصحابـة ـ رضي الله عنهم ـ مانعى الزكاة. وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبى بكر ـ رضي الله عنهما. فاتفق الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة. وكذلك ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم)، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه ليس بمسقط للقتال. فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله /فالقتال واجب. فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال، والخمر، والزنا، والميسر، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته ـ التى لا عذر لأحد فى جحودها وتركها ـ التى يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها. وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. وإنما اختلف الفقهاء فى الطائفة الممتنعة إذا أصرت على ترك بعض السنن كركعتى الفجر، والأذان والإقامة ـ عند من لا يقول بوجوبها ـ ونحو ذلك من الشعائر. هل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات والمحرمات المذكورة ونحوها فلا خلاف فى القتال عليها. وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين، أو خارجون عليه لإزالة ولايته. وأما المذكورون فهم خارجون عن/الإسلام، بمنزلة مانعى الزكاة، وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه. ولهذا افترقت سيرة على ـ رضي الله عنه ـ فى قتاله لأهل البصرة والشام، وفى قتاله لأهل النهروان، فكانت سيرته مع أهل البصرة والشاميين سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك. وثبتت النصوص عن النبى صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة من قتال الصديق وقتال الخوارج، بخلاف الفتنة الواقعة مع أهل الشام والبصرة؛ فإن النصوص دلت فيها بما دلت، والصحابة والتابعون اختلفوا فيها. على أن من الفقهاء الأئمة من يرى أن أهل البغى الذين يجب قتالهم هم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ، لا الخارجون عن طاعته. وآخرون يجعلون القسمين بغاة، وبين البغاة والتتار فرق بين فأما الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فلا أعلم فى وجوب قتالهم خلافا. فإذا تقررت هذه القاعدة، فهؤلاء القوم المسؤول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين، وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام ـ وهم جمهور العسكرـ ينطقون بالشهادتين إذا طلبت منهم، ويعظمون الرسول، وليس فيهم من يصلى إلا قليل جدا، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة، والمسلم عندهم أعظم من غيره، /وللصالحين من المسلمين عندهم قدر، وعندهم من الإسلام بعضه، وهم متفاوتون فيه، لكن الذى عليه عامتهم والـذى يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها؛ فإنهم أولا يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه، بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه وإن كان كافرا عدوا لله ورسوله، وكل من خرج عن دولة المغول أو عليها استحلوا قتاله وإن كان من خيار المسلمين. فلا يجاهدون الكفار، ولا يلزمون أهل الكتاب بالجزية والصغار، ولا ينهون أحدا مـن عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك، بل الظاهر مـن سيرتهم أن المسلم عندهم بمنزلة العدل أو الرجل الصالح أو المتطوع فى المسلمين، والكافر عندهم بمنزلة الفاسق فى المسلمين أو بمنزلة تارك التطوع. وكذلك ـ أيضـا ـ عامتهم لا يحرمون دماء المسلمين وأموالهم، إلا أن ينهاهم عنها سلطانهم، أى: لا يلتزمون تركها، وإذا نهاهم عنها أو عن غيرها أطاعوه لكونه سلطانا لا بمجرد الدين. وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات، لا من الصلاة، ولا من الزكاة، ولا من الحج، ولا غير ذلك.ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله، بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى. وإنما كان الملتزم لشرائع الإسلام الشيزبرون، وهو الذى أظهر من شرائع الإسلام ما استفاض عند الناس.وأما هؤلاء فدخلوا فيه وما التزموا شرائعه. /وقتال هذا الضرب واجب بإجماع المسلمين، وما يشك فى ذلك من عرف دين الإسلام وعرف حقيقة أمرهم؛ فإن هذا السلم الذى هم عليه ودين الإسلام لا يجتمعان أبدا. وإذا كان الأكراد والأعراب وغيرهم من أهل البوادى الذين لا يلتزمون شريعة الإسلام يجب قتالهم، وإن لم يتعد ضررهم إلى أهل الأمصار، فكيف بهؤلاء؟ نعم، يجب أن يسلك فى قتاله المسلك الشرعى، من دعائهم إلى التزام شرائع الإسلام إن لم تكن الدعوة إلى الشرائع قد بلغتهم، كما كان الكافر الحربى يدعى أولا إلى الشهادتين إن لم تكن الدعوة قد بلغته. فإن اتفق من يقاتلهم على الوجه الكامل فهو الغاية فى رضوان الله، وإعزاز كلمته، وإقامة دينه، وطاعة رسوله، وإن كان فيهم من فيه فجور وفساد نية بأن يكون يقاتل على الرياسة أو يتعدى عليهم فى بعض الأمور، وكانت مفسدة ترك قتالهم أعظم على الدين من مفسدة قتالهم على هذا الوجه، كان الواجب ـ أيضا ـ قتالهم دفعا لأعظم المفسدتين بالتزام أدناهما؛ فإن هذا من أصول الإسلام التى ينبغى مراعاتها. ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر؛ فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، كما أخبر بذلك النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار،أو مع عسكر كثير الفجور؛فإنه لابد من أحد /أمرين: إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا فى الدين والدنيا، وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين، وإقامة أكثر شرائع الإسلام، وإن لم يمكن إقامة جميعها. فهذا هو الواجب فى هذه الصورة، وكل ما أشبهها، بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه. وثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم:(الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم)، فهذا الحديث الصحيح يدل على معنى ما رواه أبو داود فى سننه من قوله صلى الله عليه وسلم: (الغزو ماض منذ بعثنى الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال،لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل)، وما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لاتزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة). إلى غير ذلك من النصوص التى اتفق أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف على العمل بها فى جهاد من يستحق الجهاد مع الأمراء أبرارهم وفجارهم، بخلاف الرافضة والخوارج الخارجين عن السنة والجماعة. هذا مع إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه (سيلى أمراءُ ظلمة خونة فجرة، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم فليس منى ولست منه،/ ولا يرد على الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو منى وأنا منه، وسيرد على الحوض). فإذا أحاط المرء علما بما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم ـ من الجهاد الذى يقوم به الأمراء إلى يوم القيامة، وبما نهى عنه من إعانة الظلمة على ظلمهم ـ علم أن الطريقة الوسطى التى هى دين الإسلام المحض جهاد من يستحق الجهاد، كهؤلاء القوم المسؤول عنهم، مع كل أمير وطائفة هى أولى بالإسلام منهم، إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك، واجتناب إعانة الطائفة التى يغزو معها على شىء من معاصى الله، بل يطيعهم فى طاعة الله، ولا يطيعهم فى معصية الله، إذ لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. وهذه طريقة خيار هذه الأمة قديماً وحديثاً. وهى واجبة على كل مكلف. وهى متوسطة بين طريق الحرورية وأمثالهم ممن يسلك مسلك الورع الفاسد الناشئ عن قلة العلم، وبين طريقة المرجئة وأمثالهم ممن يسلك مسلك طاعة الأمراء مطلقا وإن لم يكونوا أبرارا. ونسأل الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل. والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
/ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، نعم يجب قتال هؤلاء بكتاب الله، وسنة رسوله، واتفاق أئمة المسلمين. وهذا مبنى على أصلين: أحدهما: المعرفة بحالهم. والثانى: معرفة حكم الله فى مثلهم. فأما الأول: فكل من باشر القوم يعلم حالهم، ومن لم يباشرهم يعلم ذلك بما بلغه من الأخبار المتواترة وأخبار الصادقين. ونحن نذكر جل أمورهم بعد أن نبين الأصل الآخر الذى يختص بمعرفته أهل العلم بالشريعة الإسلامية فنقول: كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وإن تكلمت بالشهادتين. فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا. وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة. وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق. وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش، أو الزنا، أو الميسر، أو الخمر، أو غير ذلك من محرمات الشريعة. وكذلك إن امتنعوا عن الحكم فى الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة. وكذلك / إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتبـاع سلف الأمة وأئمتها، مثل أن يظهـروا الإلحاد فى أسماء الله وآياته، أو التكذيب بأسماء الله وصفاته، أو التكذيب بقدره وقضائه، أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين، أو الطعن فى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا فى طاعتهم التى توجب الخروج عن شريعة الإسلام، وأمثال هذه الأمور. قال الله تعالى: وقال تعالى: وقد استفاض عن النبى صلى الله عليه وسلم الأحاديث بقتال الخوارج، وهى متواترة عند أهل العلم بالحديث. قال الإمام أحمد: صح الحديث فى الخوارج من عشرة أوجه، وقد رواها مسلم فى صحيحه، وروى البخارى منها ثلاثة أوجه: حديث على، وأبى سعيد الخدرى، وسهل ابن حنيف. وفى السنن والمسانيد طرق أخر متعددة. وقد قال صلى الله عليه وسلم فى صفتهم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم،يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية،أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛فإن فى قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد). وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب بمن معه من الصحابة، واتفق على قتالهم سلف الأمة وأئمتها، لم يتنازعوا فى قتالهم كما تنازعوا فى القتال يوم الجمل وصفين. فإن الصحابة كانوا فى قتال الفتنة ثلاثة أصناف: قوم قاتلوا مع على ـ رضي الله عنه. وقوم قاتلوا مع من قاتله. وقوم قعدوا عن القتال لم يقاتلوا الواحدة من الطائفتين. وأما الخوارج /فلم يكن فيهم أحد من الصحابة، ولا نهى عن قتالهم أحد من الصحابة وفى الصحيح عن أبى سعيد، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق). وفى لفظ: (أدنى الطائفتين إلى الحق). فبهذا الحديث الصحيح ثبت أن عليا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وأن تلك المارقة التى مرقت من الإسلام ليس حكمها حكم إحدى الطائفتين، بل أمر النبى صلى الله عليه وسلم بقتال هذه المارقة، وأكد الأمر بقتالها، ولم يأمر بقتال إحدى الطائفتين كما أمر بقتال هذه، بل قد ثبت عنه فى الصحيح من حديث أبى بكرة أنه قال للحسن: (إن ابنى هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين)، فمدح الحسن وأثنى عليه بما أصلح الله به بين الطائفتين حين ترك القتال، وقد بويع له واختار الأصلح، وحقن الدماء مع نزوله عن الأمر. فلو كان القتال مأموراً به لم يمدح الحسن ويثنى عليه بترك ما أمر الله به وفعل ما نهى الله عنه. والعلماء لهم فى قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان: منهم من يرى قتال علىٍّ يوم حروراء ويوم الجمل وصفين كله من باب قتال أهل البغى، وكذلك يجعل قتال أبى بكر لمانعى الزكاة، وكذلك قتال سائر من قوتل من المنتسبين إلى القبلة، كما ذكر ذلك من ذكره /من أصحاب أبى حنيفة والشافعى ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم.وهم متفقون على أن الصحابة ليسوا فساقا بل هم عدول؛ فقالوا: إن أهل البغى عدول مع قتالهم، وهم مخطئون خطأ المجتهدين فى الفروع. وخالفت فى ذلك طائفة كابن عقيل وغيره، فذهبوا إلى تفسيق أهل البغى، وهؤلاء نظروا إلى من عدوه من أهل البغى فى زمنهم فرأوهم فساقا، ولا ريب أنهم لا يدخلون الصحابة فى ذلك ـ وإنما يفسق الصحابة بعض أهل الأهواء من المعتزلة ونحوهم، كما يكفرهم بعض أهل الأهواء من الخوارج والروافض، وليس ذلك من مذهب الأئمة والفقهاء أهل السنة والجماعة ـ ولا يقولون: إن أموالهم معصومة كما كانت، وما كان ثابتا بعينه رد إلى صاحبه، وما أتلف فى حال القتال لم يضمن، حتى إن جمهور العلماء يقولون: لا يضمن لا هؤلاء ولا هؤلاء، كما قال الزهرى: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر. وهل يجوز أن يستعان بسلاحهم فى حربهم إذا لم يكن إلى ذلك ضرورة؟ على وجهين: فى مذهب أحمد يجوز، والمنع قول الشافعى والرخصة قول أبى حنيفة. واختلفوا فى قتل أسيرهم،واتباع مدبرهم،والتَّذْفِيف على جريحهم / إذا كان لهم فئة يلجؤون إليها. فجوز ذلك أبو حنيفة، ومنعه الشافعى، وهو المشهور فى مذهب أحمد، وفى مذهبه وجه: أنه يتبع مدبرهم فى أول القتال. وأما إذا لم يكن لهم فئة فلا يقتل أسير ولا يُذَفَّف على جريح، كما رواه سعيد وغيره عن مروان بن الحكم قال: خرج صارخ لعلى يوم الجمل: لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن. فمن سلك هذه الطريقة فقد يتوهم أن هؤلاء التتار من أهل البغى المتأولين، ويحكم فيهم بمثل هذه الأحكام، كما أدخل من أدخل فى هذا الحكم مانعى الزكاة والخوارج. وسنبين فساد هذا التوهم إن شاء الله تعالى. والطريقة الثانية: أن قتال مانعى الزكاة والخوارج ونحوهم ليس كقتال أهل الجمل وصفين، وهذا هو المنصوص عن جمهور الأئمة المتقدمين، وهو الذى يذكرونه فى اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهو مذهب أهل المدينة كمالك وغيره، ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره. وقد نصوا على الفرق بين هذا وهذا فى غير موضع، حتى فى الأموال. فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج، وقد نص أحمد فى رواية أبى طالب فى حرورية كان لهم سهم فى قرية فخرجوا / يقاتلون المسلمين فقتلهم المسلمون،فأرضهم فىء للمسلمين،يقسم خمسه على خمسة، وأربعة أخماسه للذين قاتلوا يقسم بينهم، أو يجعل الأمير الخراج على المسلمين ولا يقسم، مثل ما أخذ عمر السواد عنوة ووقفه على المسلمين. فجعل أحمد الأرض التى للخوارج إذا غنمت بمنزلة ما غنم من أموال الكفار. وبالجملة، فهذه الطريقة هى الصواب المقطوع به. فإن النص والإجماع فرق بين هذا وهذا، وسيرة على ـ رضي الله عنه ـ تفرق بين هذا وهذا. فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرح بذلك، ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة. وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من كراهته والذم عليه ما ظهر. وقال فى أهل الجمل وغيرهم: إخواننا بغوا علينا، طهرهم السيف. وصلى على قتلى الطائفتين. وأما الخوارج، ففى الصحيحين عن على بن أبى طالب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيخرج قوم فى آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن فى قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة). وفى صحيح مسلم، عن زيد بن وهب أنه كان فى الجيش الذى/ كانوا مع على، الذين ساروا إلى الخوارج، فقال على: أيها الناس، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج قوم من أمتى يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشىء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشىء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشىء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان محمد نبيهم لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع، على عضده مثل حلمة الثدى، عليه شعرات بيض). قال: فيذهبون إلى معاوية وأهل الشام، ويتركون هؤلاء يخلفونكم فى ذراريكم وأموالكم، والله إنى لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا فى سرح الناس، فسيروا على اسم الله. قال: فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب رئيسا. فقال لهم: القوا الرماح، وسلّوا سيوفكم من حقوتها، فإنى أناشدكم كما ناشدوكم يوم حروراء. فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وسحرهم الناس برماحهم. قال: وأقبل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان. فقال على: التمسوا فيهم المخدج. فالتمسوه فلم يجدوه. فقام على سيفه حتى أتى ناسا قد أقبل بعضهم على بعض. قال: أخروهم. فوجدوه مما يلى الأرض. فكبر، ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله. قال: فقام إليه عبيدة السلمانى. فقال: يا أمير المؤمنين، الله الذى لا إله إلا / هو، أسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إى والله الذى لا إله إلا هو، حتى استحلفه ثلاثا، وهو يحلف له أيضا. فإن الأمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا فى تكفيرهم على قولين مشهورين فى مذهب مالك وأحمد، وفى مذهب الشافعى ـ أيضا ـ نزاع فى كفرهم. ولهذا كان فيهم وجهان فى مذهب أحمد وغيره على الطريقة الأولى: أحدهما: أنهم بغاة. والثانى: أنهم كفار كالمرتدين، يجوز قتلهم ابتداء، وقتل أسيرهم، واتباع مدبرهم، ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد، فإن تاب وإلا قتل؛ كما أن مذهبه فى مانعى الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها، هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها؟ على روايتين. وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعى الزكاة، وقتال على للخوارج، ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين. فكلام على وغيره فى الخوارج يقتضى أنهم ليسوا كفارا كالمرتدين عن أصل الإسلام، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين، بل هم نوع ثالث. وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم. /وممن قاتلهم الصحابة ـ مع إقرارهم بالشهادتين والصلاة وغير ذلك ـ مانعى الزكاة، كما فى الصحيحين عن أبى هريرة: أن عمر بن الخطاب قال لأبى بكر: يا خليفة رسول الله، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها). فقال له أبو بكر: ألم يقل لك: (إلا بحقها). فإن الزكاة من حقها. والله لو منعونى عَنَاقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال، فعلمت أنه الحق. وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعى الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان، وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة، فلهذا كانوا مرتدين، وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب، كما أمر الله. وقد حكى عنهم أنهم قالوا: إن الله أمر نبيه بأخذ الزكاة بقوله: وكذلك أمر النبى صلى الله عليه وسلم بقتال الذين لا ينتهون عن شرب الخمر. وأما الأصل الآخر ـ وهو معرفة أحوالهم ـ فقد علم أن هؤلاء/ القوم جازوا على الشام فى المرة الأولى ـ عام تسعة وتسعين ـ وأعطوا الناس الأمان، وقرؤوه على المنبر بدمشق، ومع هذا فقد سبوا من ذرارى المسلمين ما يقال: إنه مائة ألف أو يزيد عليه، وفعلوا ببيت المقدس، وبجبل الصالحية ونابلس وحمص وداريا، وغير ذلك من القتل والسبى ما لا يعلمه إلا الله، حتى يقال: إنهم سبوا من المسلمين قريبا من مائة ألف، وجعلوا يفجرون بخيار نساء المسلمين فى المساجد وغيرها، كالمسجد الأقصى والأموى وغيره، وجعلوا الجامع الذى بالعقيبة دكا. وقد شاهدنا عسكر القوم، فرأينا جمهورهم لا يصلون، ولم نر فى عسكرهم مؤذنا ولا إماما، وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم ما لا يعلمه إلا الله. ولم يكن معهم فى دولتهم إلا من كان من شر الخلق: إما زنديق منافق لا يعتقد دين الإسـلام فى الباطن، وإما من هو من شر أهل البدع كالرافضة والجهمية والاتحادية ونحوهم، وإما من هو من أفجر الناس وأفسقهم. وهم فى بلادهم ـ مع تمكنهم ـ لا يحجون البيت العتيق، وإن كان فيهم من يصلى ويصوم فليس الغالب عليهم إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة. وهم يقاتلون على ملك جنكسخان. فمن دخل فى طاعتهم جعلوه /وليا لهم وإن كان كافرا، ومن خرج عن ذلك جعلوه عدوا لهم وإن كان من خيار المسلمين. ولا يقاتلون على الإسلام، ولا يضعون الجزية والصغار. بل غاية كثير من المسلمين منهم ـ من أكابر أمرائهم ووزرائهم ـ أن يكون المسلم عندهم كمن يعظمونه من المشركين من اليهود والنصارى، كما قال أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام، وهو يخاطب رسل المسلمين ويتقرب إليهم بأنا مسلمون. فقال: هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله، محمد وجنكسخان. فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين، أن يسوى بين رسول الله وأكرم الخلق عليه وسيد ولد آدم وخاتم المرسلين، وبين ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفراً وفساداً وعدواناً من جنس بختنصر وأمثاله. وذلك أن اعتقاد هؤلاء التتار كان فى جنكسخان عظيما، فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى فى المسيح، ويقولون: إن الشمس حبلت أمه، وأنها كانت فى خيمة فنزلت الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها حتى حبلت. ومعلوم عند كل ذى دين أن هذا كذب. وهذا دليل على أنه ولد زنا، وأن أمه زنت فكتمت زناها، وادعت هذا حتى تدفع عنها مَعَرَّة الزنا، وهم مع هذا يجعلونه أعظم رسول عند الله فى تعظيم ما سنه لهم وشرعه بظنه وهواه،حتى / يقولوا لما عندهم من المال:هذا رزق جنكسخان،ويشكرونه على أكلهم وشربهم، وهم يستحلون قتل من عادى ما سنه لهم هذا الكافر الملعون المعادى لله ولأنبيائه ورسوله وعباده المؤمنين. فهذا وأمثاله من مقدميهم كان غايته بعد الإسلام أن يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم بمنزلة هذا الملعون. ومعلوم أن مسيلمة الكـذاب كان أقل ضرراً على المسلمين من هذا، وادعى أنه شريك محمد فى الرساله، وبهذا استحل الصحابة قتاله وقتال أصحابه المرتدين، فكيف بمن كان فيما يظهره من الإسلام يجعل محمدًا كجنكسخان؟! وإلا فهم مع إظهارهم للإسلام يعظمون أمر جنكسخان على المسلمين المتبعين لشريعة القرآن، ولا يقاتلون أولئك المتبعين لما سنه جنكسخان كما يقاتلون المسلمين بل أعظم. أولئك الكفار يبذلون له الطاعة والانقياد، ويحملون إليه الأموال، ويقرون له بالنيابة، ولا يخالفون ما يأمرهم به إلا كما يخالف الخارج عن طاعة الإمام للإمام. وهم يحاربون المسلمين ويعادونهم أعظم معاداة، ويطلبون من المسلمين الطاعة لهم وبذل الأموال، والدخـول فيما وضعه لهم ذلك الملك الكافر المشرك المشابه لفرعون أو النمروذ ونحوهما، بل هو أعظم فسادا فى الأرض منهما. قال الله تعالى: وهذا الكافر علا فى الأرض؛ يستضعف أهل الملل كلهم من المسلمين واليهود والنصارى ومن خالفه من المشركين بقتل الرجال وسبى الحريم، وبأخذ الأموال، وبهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. ويرد الناس عما كانوا عليه من سنن الأنبياء والمرسلين إلى أن يدخلوا فيما ابتدعه من سنته الجاهلية وشريعته الكفرية. فهم يدعون دين الإسلام، ويعظمون دين أولئك الكفار على دين المسلمين، ويطيعونهم ويوالونهم أعظم بكثير من طاعة الله ورسوله وموالاة المؤمنين، والحكم فيما شجر بين أكابرهم بحكم الجاهلية، لا بحكم الله ورسوله. وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم، يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى، وأن هذه كلها طرق إلى الله، بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين. ثم منهم من يرجح دين اليهود أو دين النصارى، ومنهم من يرجح دين المسلمين، وهذا القول فاش غالب فيهم، حتى فى فقهائهم وعبادهم لاسيما الجهمية من الاتحادية الفرعونية ونحوهم، فإنه غلبت عليهم الفلسفة. وهذا مذهب كثير من المتفلسفة أو أكثرهم، وعلى /هذا كثير من النصارى أو أكثرهم، وكثير من اليهود أيضا، بل لو قال القائل: إن غالب خواص العلماء منهم والعباد على هذا المذهب لما أبعد. وقد رأيت من ذلك وسمعت ما لا يتسع له هذا الموضع. ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين: أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر. وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب، كما قال تعالى: وهؤلاء أكثر وزرائهم الذين يصدرون عن رأيه غايته أن يكون من هذا الضرب، فإنه كان يهوديا متفلسفا، ثم انتسب إلى الإسلام مع ما فيه من اليهودية والتفلسف، وضم إلى ذلك الرفض. فهذا هو أعظم من عندهم من ذوى الأقلام، وذاك أعظم من كان عندهم من ذوى السيف. فليعتبر المؤمن بهذا. وبالجملة، فما من نفاق وزندقة وإلحاد إلا وهى داخلة فى اتباع التتار؛/لأنهم من أجهل الخلق وأقلهم معرفة بالدين، وأبعدهم عن اتباعه، وأعظم الخلق اتباعًا للظن وما تهوى الأنفس. وقد قسموا الناس أربعة أقسام: يال، وباع، وداشمند، وطاط ـ أى: صديقهم وعدوهم والعالم والعامى ـ فمن دخل فى طاعتهم الجاهلية وسنتهم الكفرية كان صديقهم. ومن خالفهم كان عدوهم ولو كان من أنبياء الله ورسله وأوليائه. وكل من انتسب إلى علم أو دين سموه [داشمند] كالفقيه والزاهـد والقسيس والراهب ودنان اليهود والمنجم والساحر والطبيب والكاتب والحاسب، فيدرجون سادن الأصنام. فيدرجون فى هذا من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع ما لا يعلمه إلا الله، ويجعلون أهل العلم والإيمان نوعًا واحدًا. بل يجعلون القرامطة الملاحدة الباطنية الزنادقة المنافقين كالطوسى وأمثاله، هم الحكام على جميع من انتسب إلى علم أو دين من المسلمين واليهود والنصارى. وكذلك وزيرهم السفيه الملقب بالرشيد يحكم على هذه الأصناف ويقدم شرار المسلمين كالرافضة والملاحدة على خيار المسلمين أهل العلم والإيمان، حتى تولى قضاء القضاة من كان أقرب إلى الزندقة والإلحاد والكفر بالله ورسوله، بحيث تكون موافقته للكفار والمنافقين من اليهود والقرامطة والملاحدة والرافضة على ما يريدونه أعظم من غيره. /ويتظاهر من شريعة الإسلام بما لابد له منه، لأجل من هناك من المسلمين، حتى إن وزيرهم الخبيث الملحد المنافق صنف مصنفًا، مضمونه أن النبى صلى الله عليه وسلم رضى بدين اليهود والنصارى، وأنه لا ينكر عليهم، ولا يذمون ولا ينهون عن دينهم، ولا يؤمرون بالانتقال إلى الإسلام. واستدل الخبيث الجاهل بقوله: ومن المعلوم أن هذا جهل منه، فإن قوله: وقد أظهروا الرفض، ومنعوا أن نذكر على المنابر الخلفاء الراشدين، وذكروا عليـًا وأظهروا الدعوة للاثنى عشر، الذين تزعم الرافضة أنهم أئمة معصومون، وأن أبا بكر وعمر وعثمان كفار وفجار ظالمون، لا خلافة لهم، ولا لمن بعدهم. ومذهب الرافضة شر من مذهب الخوارج المارقين؛ فإن الخوارج غايتهم تكفير عثمان وعلى وشيعتهما. والرافضة تكفير أبى بكر وعمر وعثمان وجمهور السابقين الأولين، وتجحد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم مما جحد به الخوارج، و فيهم من الكذب والافتراء والغلـو والإلحـاد ما ليس فى الخوارج، وفيهم من معاونة الكفار على المسلمين ما ليس فى الخوارج. والرافضة تحب التتار ودولتهم؛ لأنه يحصل لهم بها من العز ما لا يحصل بدولة المسلمين. والرافضة هم معاونون للمشركين واليهـود والنصارى على قتال المسلمين، وهم كانوا من أعظم الأسباب فى دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام، وكانوا من أعظم الناس معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام وقتل المسلمين /وسبى حريمهم. وقضية ابن العلقمى وأمثاله مع الخليفـة، وقضيتهم فى حلب مع صاحب حلب مشهورة يعرفها عموم الناس. وكذلك فى الحروب التى بين المسلمين وبين النصارى بسواحل الشام، قد عرف أهل الخبرة أن الرافضة تكون مع النصارى على المسلمين، وأنهم عاونوهم على أخذ البلاد لما جاء التتار، وعز على الرافضة فتح عكة وغيرها من السواحل، وإذا غلب المسلمون النصارى والمشركين كان ذلك غصة عند الرافضة، وإذا غلب المشركون والنصارى المسلمين كان ذلك عيدًا ومسرة عند الرافضة. ودخل فى الرافضة أهل الزندقة والإلحاد من [النصيرية] و[الإسماعيلية] وأمثالهم من الملاحدة [القرامطة] وغيرهم ممن كان بخراسان والعراق والشام وغير ذلك. والرافضة جهمية قدرية، وفيهم من الكذب والبدع والافتراء على الله ورسوله أعظم مما فى الخوارج المارقين الذين قاتلهم أمير المؤمنين على وسائر الصحابة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل فيهم من الردة عن شرائع الدين أعظم مما فى مانعى الزكاة الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والصحابة. ومن أعظم ما ذم به النبى صلى الله عليه وسلم الخوارج قوله فيهم:(يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان)، كما أخرجا فى الصحيحين، عن أبى سعيد، قال: بعث على إلى النبى صلى الله عليه وسلم /بذهيبة فقسمها بين أربعة ـ يعنى من أمراء نجد ـ فغضبت قريش والأنصار. قالوا: يعطى صناديد أهل نجد ويدعنا!! قال: (إنما أتألفهم). فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية، محلوق، فقال: يا محمد، اتق الله. فقال: (من يطع الله إذا عصيته، أيأمننى الله على أهل الأرض ولا تأمنونى؟). فسأله رجل قَتْلَه فمنعه. فلما ولى قال: (إن من ضئضئ هذا ـ أو فى عقب هذا ـ قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية،يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعُون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفى لفظ فى الصحيحين عن أبى سعيد، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو يقسم قسمًا ـ أتاه ذو الخويصرة ـ وهو رجل من بنى تميم ـ فقال: يا رسول الله، اعدل. فقال: (ويلك، فمن يعدل إذا لم أعدل! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل). فقال عمر: يا رسول الله، أتأذن لى فيه فأضرب عنقه؟ فقال: (دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شىء، قد سبق الفرث والدم. آيتهم رجل أسود، إحدى /عضديه مثل ثدى المرأة، أو مثل البضعة، يخرحون على حين فرقة من الناس). قال أبو سعيد: فأشهد أنى سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن على بن أبى طالب قاتلهم وأنا معه. فأمر بذلك الرجل فالتمس، فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى نعته. فهؤلاء الخوارج المارقون من أعظم ما ذمهم به النبى صلى الله عليه وسلم: أنهم يقتلون أهل الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان، وذكر أنهم يخرجون على حين فرقة من الناس، والخوارج مع هذا لم يكونوا يعاونون الكفار على قتال المسلمين،والرافضة يعاونون الكفار على قتال المسلمين، فلم يكفهم أنهم لا يقاتلون الكفار مع المسلمين حتى قاتلوا المسلمين مع الكفار، فكانوا أعظم مروقًا عن الدين من أولئك المارقين بكثير، كثير. وقد أجمع المسلمون على وجوب قتال الخوارج والروافض ونحوهم إذا فارقوا جماعة المسلمين، كما قاتلهم على ـ رضى الله عنه ـ فكيف إذا ضمـوا إلى ذلك من أحكام المشركين ـ كنائسًا ـ وجنكسخان ملك المشركين: ما هو من أعظم المضادة لدين الإسلام، وكل من قفز إليهم من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم، وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام. وإذا كان السلف قد /سموا مانعى الزكاة مرتدين ـ مع كونهم يصومون، ويصلون، ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين ـ فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلا للمسلمين؟! مع أنه والعياذ بالله لو استولى هؤلاء المحاربون لله ورسوله، المحادون لله ورسوله، المعادون لله ورسوله، على أرض الشام ومصر فى مثل هذا الوقت، لأفضى ذلك إلى زوال دين الإسلام ودروس شرائعه. أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما، فهم فى هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام، وهم من أحق الناس دخولاً فى الطائفة المنصورة التى ذكره النبى صلى الله عليه وسلم بقوله فى الأحاديث الصحيحة المستفيضة عنه: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لايضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة). وفى رواية لمسلم: (لا يزال أهل الغرب). والنبى صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الكلام بمدينته النبوية، فغربه ما يغرب عنها، وشرقه ما يشرق عنها، فإن التشريق والتغريب من الأمور النسبية، إذ كل بلد له شرق وغرب؛ ولهذا إذا قدم الرجل إلى الإسكندرية من الغرب يقولون: سافر إلى الشرق، وكان أهل المدينة يسمون أهل الشام: أهل الغرب، ويسمون أهل نجد والعراق: أهل الشرق، كما فى حديث ابن عمر قال: قدم رجلان من أهل المشرق فخطبا، وفى /رواية: من أهل نجد. ولهذا قال أحمد بن حنبل: (أهل الغرب) هم أهل الشام ـ يعنى: هم أهل الغرب ـ كما أن نجد والعراق أول الشرق، وكل ما يشرق عنها فهو من الشرق، وكل ما يغرب عن الشام من مصر وغيرها فهو داخل فى الغرب. وفى الصحيحين: أن معاذ بن جبل قال فى الطائفة المنصورة: وهم بالشام. فإنها أصل المغرب، وهم فتحوا سائر المغرب، كمصر، والقيروان، والأندلس، وغير ذلك. وإذا كان غرب المدينة النبوية ما يغرب عنها، فالحيرة ونحوها على مسامتة المدينة النبوية، كما أن حران، والرقة، وسميساط ونحوها على مسامتة مكة، فما يغرب عن البيرة فهو من الغرب الذين وعدهم النبى صلى الله عليه وسلم؛ لما تقدم. وقد جاء فى حديث آخر فى صفة الطائفة المنصورة: (أنهم بأكناف البيت المقدس). وهذه الطائفة هى التى بأكناف البيت المقدس اليوم. ومن يتدبر أحوال العالم فى هذا الوقت، يعلم أن هذه الطائفة هى أقوم الطوائف بدين الإسلام، علمًا، وعملاً، وجهادًا عن شرق الأرض وغربها؛ فإنهم هم الذين يقاتلون أهل الشوكة العظيمة من المشركين وأهل الكتاب، ومغازيهم مع النصارى، ومع المشركين من الترك، ومع الزنادقة المنافقين من الداخلين فى الرافضة وغيرهم، كالإسماعيلية ونحوهم من القرامطة معروفة، معلومة قديمًا وحديثًا. والعز الذى للمسلمين بمشارق الأرض ومغاربها هو بعزهم؛ ولهذا لما هزموا /سنة تسع وتسعين وستمائة دخل على أهل الإسلام من الذل والمصيبة بمشارق الأرض ومغاربها ما لا يعلمه إلا الله. والحكايات فى ذلك كثيرة ليس هذا موضعها. وذلك أن سكان اليمن فى هذا الوقت ضعاف، عاجزون عن الجهاد أو مضيعون له، وهم مطيعون لمن ملك هذه البلاد، حتى ذكروا أنهم أرسلوا بالسمع والطاعة لهؤلاء، وملك المشركين لما جاء إلى حلب جرى بها من القتل ما جرى. وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو? كثير منهم خارجون عن الشريعة، وفيهم من البدع والضلال والفجور ما لا يعلمه إلا الله، وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون، وإنما تكون القوة والعزة فى هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد، فلو ذلت هذه الطائفة ـ والعياذ بالله تعالى ـ لكان المؤمنون بالحجاز من أذل الناس، لاسيما وقد غلب فيهم الرفض، وملك هؤلاء التتار المحاربون لله ورسوله الآن مرفوض، فلو غلبوا لفسد الحجاز بالكلية. وأما بلاد إفريقية فأعرابها غالبون عليها، وهم من شر الخلق، بل هم مستحقون للجهاد والغزو. وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنجة على أكثر بلادهم، لا يقومون بجهاد النصارى هناك، بل فى عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم. لو استولى التتار على هذه البلاد لكان أهل المغرب معهم من أذل الناس، لاسيما والنصارى /تدخل مع التتار فيصيرون حزبًا على أهل المغرب. فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التى بالشام ومصر فى هذا الوقت هم كتيبة الإسلام، وعزهم عز الإسلام، وذلهم ذل الإسلام. فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز، ولا كلمة عالية، ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهل الأرض تقاتل عنه. فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار؛ فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلى من وجوه متعددة. منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعقد له ذمة، بخلاف الكافر الأصلى. ومنها: أن المرتد يقتل وإن كان عاجزًا عن القتال، بخلاف الكافر الأصلى الذى ليس هو من أهل القتال، فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء كأبى حنيفـة ومالك وأحمد؛ ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعى وأحمد. ومنها: أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلى. إلى غير ذلك من الأحكام. وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلى عن شرائعه؛ ولهذا كان كل مؤمن يعرف أحوال التتار، ويعلم أن المرتدين الذين فيهم / من الفرس والعرب وغيرهم شر من الكفار الأصليين من الترك ونحوهم، وهم بعد أن تكلموا بالشهادتين مع تركهم لكثير من شرائع الدين خير من المرتدين من الفرس والعرب وغيرهم، وبهذا يتبين أن من كان معهم ممن كان مسلم الأصل هو شر من الترك الذين كانوا كفارًا؛ فإن المسلم الأصلى إذا ارتد عن بعض شرائعه، كان أسوأ حالاً ممن لم يدخل بعد فى تلك الشرائع، مثل مانعى الزكاة وأمثالهم ممن قاتلهم الصديق. وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقها أو متصوفًا أو تاجرًا أو كاتبًا أو غير ذلك، فهؤلاء شر من الترك الذين لم يدخلوا فى تلك الشرائع وأصروا على الإسلام؛ ولهذا يجد المسلمون من ضرر هؤلاء على الدين ما لا يجدونه من ضرر أولئك، وينقادون للإسلام وشرائعه وطاعة الله ورسوله أعظم من انقياد هؤلاء الذين ارتدوا عن بعض الدين، ونافقوا فى بعضه، وإن تظاهروا بالانتساب إلى العلم والدين. وغاية ما يوجد من هؤلاء يكون ملحدًا، نصيريـًا، أو إسـماعيليًا، أو رافضيًا. وخيارهم يكون جهميًا اتحاديًا أو نحوه، فإنه لا ينضـم إليهـم طوعًا من المظهرين للإسـلام إلا منافق أو زنديق أو فاسق فاجر. ومن أخرجوه معهم مكرهًا فإنه يبعث على نيته. ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه إذ لا يتميز المكره من غيره. وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:/(يغزو هذا البيت جيش من الناس، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم). فقيل: يا رسـول الله، إن فيهم المكره. فقال: (يبعثون على نياتهم). والحديث مستفيض عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، أخرجه أرباب الصحيح عن عائشة، وحفصة، وأم سلمة. ففى صحيح مسلم عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعوذ عائذ بالبيت، فيبعث إليه بعث، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم). فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهًا؟ قال: (يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته)، وفى الصحيحين عن عائشة قالت: عبث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منامه. فقلنا: يا رسول الله، صنعت شيئًا فى منامك لم تكن تفعله. فقال: (العجب! إن ناسًا من أمتى يؤمون هذا البيت برجل من قريش وقد لجأ إلى البيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خسفت بهم). فقلنا: يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس. قال: (نعم، فيهم المستنصر، والمجنون، وابن السبيل، فيهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله ـ عز وجل ـ على نياتهم)، وفى لفظ للبخارى عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم). قالت: قلت: يارسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟! قال: (يخسف بأولهم وآخرهم،ثم يبعثون على نياتهم)،/ وفى صحيح مسلم عن حفصة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيعوذ بهذا البيت ـ يعنى الكعبة ـ قوم ليست لهم منعة، ولا عدد، ولا عدة، يبعث إليهم جيش يومئذ حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم). قال يوسف بن ماهك: وأهل الشام يومئذ يسيرون إلى مكة. فقال عبد الله بن صفوان: أما والله ما هو بهذا الجيش. فالله ـ تعالى ـ أهلك الجيش الذى أراد أن ينتهك حرماته ـ المكره فيهم وغير المكره ـ مع قدرته على التمييز بينهم، مع أنه يبعثهم على نياتهم، فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين المكره وغيره، وهم لا يعلمون ذلك؟! بل لو ادعى مدع أنه خرج مكرهًا لم ينفعه ذلك بمجرد دعواه، كما روى أن العباس بن عبد المطلب قال للنبى صلى الله عليه وسلم ـ لما أسره المسلمون يوم بدر: يا رسول الله، إنى كنت مكرهًا. فقال: (أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله). بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضًا، فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على المسلمين إذا لم يقاتلوا، فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار. ولو لم نخف على المسلمين جاز رمى أولئك المسلمين ـ أيضًا ـ فى أحد قولى العلماء.ومن قتل لأجل الجهاد الذى/ أمر الله به ورسوله ـ هو فى الباطن مظلوم ـ كان شهيدًا، وبعث على نيته، ولم يكن قتله أعظم فسادًا من قتل من يقتل من المؤمنين المجاهدين. وإذا كان الجهاد واجبًا وإن قتل من المسلمين ما شاء الله. فقتل من يقتل فى صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا، بل قد أمر النبى صلى الله عليه وسلم المكره فى قتال الفتنة بكسر سيفه. وليس له أن يقاتل، وإن قتل، كما فى صحيح مسلم، عن أبى بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتن، ألا ثم تكون فتن، القاعد فيها خير من الماشى، والماشى فيها خير من الساعى، ألا فإذا نزلت ـ أو وقعت ـ فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه). قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل، ولا غنم، ولا أرض؟ قال: (يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة. اللهم هل بلغت. اللهم هل بلغت. اللهم هل بلغت). فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بى إلى إحدى الصفين ـ أو إحدى الفئتين ـ فيضربنى رجل بسيفه، أو بسهمه، فيقتلنى. قال:( يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار). /ففى هذا الحديث أنه نهى عن القتال فى الفتنة، بل أمر بما يتعذر معه القتال من الاعتزال، أو إفساد السلاح الذى يقاتل به، وقد دخل فى ذلك المكره وغيره. ثم بين أن المكره إذا قتل ظلمًا كان القاتل قد باء بإثمه وإثم المقتول، كما قال ـ تعالى ـ فى قصة ابنى آدم عن المظلوم: والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال فى الفتنة ليس له أن يقاتل، بل عليه إفساد سلاحه، وأن يصبر حتى يقتل مظلومـًا، فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام، كمانعى الزكاة والمرتدين ونحوهم؟! فلا ريب أن هذا يجب علىه إذا أكره على الحضور ألا يقاتل، وإن قتله المسلمون، كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين، وكما لو أكره رجل رجلا على قتل مسلم معصوم، فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين، وإن أكرهه بالقتل، فإنه ليس حفظ نفسه بقتل ذلك المعصوم أولى من العكس، /فليس له أن يظلم غيره فيقتله لئلا يقتل هو، بل إذا فعل ذلك كان القود على المكِره والمكرَه جميعًا عند أكثر العلماء، كأحمد، ومالك، والشافعى فى أحد قوليه، وفى الآخر يجب القود على المكره فقط، كقول أبى حنيفة ومحمد. وقيل: القود على المكره المباشر، كما روى ذلك عن زفر. وأبو يوسف يوجب الضمان بالدية بدل القود، ولم يوجبه. وقد روى مسلم فى صحيحه عن النبى صلى الله عليه وسلم قصة أصحاب الأخدود، وفيها: أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين؛ ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم فى صف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان فى ذلك مصلحة للمسلمين. وقد بسطنا القول فى هذه المسألة فى موضع آخر. فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به لأجل مصلحة الجهاد،مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره، كان ما يفضى إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التى لا تحصل إلا بذلك، ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذى لا يندفع إلا بذلك أولى. وإذا كانت السنة والإجماع متفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قتل، وإن كان المال الذى يأخذه قيراطًا من دينار.كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح: (من قتل دون ماله فهو شهيد،ومن قتل دون دمه فهو شهيد، من قتل دون حرمه فهو شهيد)، فكيف /بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام، المحاربين لله ورسوله، الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم؟. فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالسنة والإجماع، وهؤلاء معتدون صائلون على المسلمين فى أنفسهم، وأموالهم، وحرمهم، ودينهم. وكل من هذه يبيح قتال الصائل عليها. ومن قتل دونها فهو شهيد، فكيف بمن قاتل عليها كلها، وهم من شر البغاة المتأولين الظالمين؟ لكن من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون فقد أخطأ خطأ قبيحًا، وضل ضلالاً بعيدًا، فإن أقل ما فى البغاة المتأولين أن يكون لهم تأويل سائغ خرجوا به؛ ولهذا قالوا: إن الإمام يراسلهم، فإن ذكروا شبهة بينها،وإن ذكروا مظلمة أزالها. فأى شبهة لهؤلاء المحاربين لله ورسوله، الساعين فى الأرض فسادًا الخارجين عن شرائع الدين؟ ولا ريب أنهم لا يقولون: إنهم أقوم بدين الإسلام علمًا وعملاً من هذه الطائفة، بل هم مع دعواهم الإسلام يعلمون أن هذه الطائفة أعلم بالإسلام منهم، وأتبع له منهم. وكل من تحت أديم السماء من مسلم وكافر يعلم ذلك، وهم مع ذلك ينذرون المسلمين بالقتال، فامتنع أن تكون لهم شبهة بينة يستحلون بها قتال المسلمين، كيف وهم قد سبوا غالب حريم الرعية الذين لم يقاتلوهم؟! حتى إن الناس قد رأوهم يعظمون البقعة ويأخذون ما فيها من الأموال، ويعظمون الرجل /ويتبركون به ويسلبونه ما عليه من الثياب، ويسبون حريمه، ويعاقبونه بأنواع العقوبات التى لا يعاقب بها إلا أظلم الناس وأفجرهم، والمتأول تأويلاً دينيًا لا يعاقب إلا من يراه عاصيًا للدين، وهم يعظمون من يعاقبونه فى الدين ويقولون: إنه أطوع لله منهم. فأى تأويل بقى لهم؟! ثم لو قدر أنهم متأولون لم يكن تأويلهم سائغًا، بل تأويل الخوارج ومانعى الزكاة أوجه من تأويلهم. أما الخوارج فإنهم ادعوا اتباع القرآن، وأن ما خالفه من السنة لا يجوز العمل به. وأما مانعو الزكاة فقد ذكروا أنهم قالوا: إن الله قال لنبيه: وقد خاطبنى بعضهم بأن قال: ملكنا ملك، ابن ملك، ابن ملك، إلى سبعة أجداد، وملككم ابن مولى. فقلت له: آباء ذلك الملك كلهم كفار، ولا فخر بالكافر، بل المملوك المسلم خير من الملك الكافر، قال الله تعالى: وفى الصحيحين عنه أنه قال لقبيلة قريبة منه: (إن آل أبى فلان ليسوا بأوليائى، إنما وليى الله وصالح المؤمنين)، فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن موالاته ليست بالقرابة والنسب، بل بالإيمان والتقوى. فإذا كان هذا فى قرابة الرسول، فكيف بقرابة جنكسخان الكافر المشرك؟! وقد أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل ممن هو دونه فى الإيمان والتقوى، وإن كان الأول أسود حبشيًا، والثانى علويًا أو عباسيًا.
|